المادة    
  1. رد أهل السنة على شبهة التركيب عند المرجئة

    الشبهة الرابعة: التركيب، أي: أنه لا يتبعض ولا يتجزأ بل هو مركب، يقول ذلك أهل السنة والجماعة ، و المرجئة يقولون: ولأنه لو كان مركباً من قول وعمل لزال كله بزوال جزئه. قال الإمام ابن أبي العز: [وأما كونه يلزم من زوال جزئه زوال كله، فإن أريد أن الهيئة الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت فمسلم، ولكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر الأجزاء فيزول عنه الكمال فقط] وهذا الكلام يحتاج إلى تفصيل، ولكن قبله لابد أن نعرف حقيقة شبهتهم، فهم يقولون: إنه في الهيئة الاجتماعية أو في الأشياء المركبة إذا زال جزؤها زال الاسم، مثل: العدد: عشرة، إذا زال منها واحد لم تعد عشرة، وأنتم تقولون: -أي: أهل السنة - إذا زال جزء من الإيمان فإن الباقي يسمى إيماناً، فيقولون: هذا الدليل العقلي يدل على بطلان مذهبكم، وذلك أن المركب إذا زال جزؤه زال كله، بمعنى: إذا الاسم انتفى فلا يسمى إيماناً، ويمثلون (بسكنجبين)، وقد استغرب منه الشيخ الشنقيطي رحمه الله في مذكرة أصول الفقه ، و ابن تيمية ، وهذه المادة وغيرها -مخلوطة- تتركب من مادتين، كأن يركب دواء من العسل ومن الليمون، فيصبح لا هو حلو ولا هو مر، فليس عسلاً وليس ليموناً.
    والمقصود: أن هذا التركيب يجعله مادة أو شيئاً ثابتاً، لو زال المركب -أي: العسل- وما بقي إلا المادة الأخرى -الليمون- فلا يصح أن تطلق عليه الاسم، وكذلك لو أخذنا الآخر فلا يطلق عليهما الاسم إلا مجتمعين، وكلامه هذا صحيح، فإذا زال أحدهما، أي: ما تتكون منه الهيئة الاجتماعية، أو الشيء المجتمع، إذا زال أحدهما زال الاسم وانتفت الهيئة الاجتماعية كلها، وأصبح شيئاً آخر غير هذه الهيئة، وكما يقال: إن الماء مركب من أوكسجين وهيدروجين، فإذا أخذت عنصر الهيدروجين أو الأكسجين لم يعد الباقي ماءً، وبالتالي المركبات الكيميائية مثل الملح لو أخذنا عناصره لم يعد يسمى ملحاً.
    والمقصود أن المرجئة يقولون: إنكم عندما تقولون: إن الإيمان مركب، ثم تقولون: إنه تزول بعض أجزائه ولا تزول هيئته، ويظل تتناقضون مع الحقيقة العقلية؛ لأن الأشياء -بالعقل والنظر- المركبة إذا ذهب جزؤها ذهب كلها، فيعني هذا: أن أهل السنة بين قولين: إما أن تقولوا بقول الخوارج وهو: ما دام أن الشيء المركب إذا ذهب جزؤه فقد ذهب كله، فكذلك أن الإيمان مركب، فالذي ترك واجباً من الواجبات يكون كافراً؛ لأن الإيمان قد ذهب كله! أو تقولون كقولنا نحن المرجئة وهو: أن الإيمان غير مركب، وهذه هي شبهتهم في التركيب، والرد عليهم أن يقال: إن المركبات على نوعين -ومن أراد مرجعاً في هذا ففي الإيمان الأوسط لشيخ الإسلام ابن تيمية-: (منها ما يكون التركيب شرطاً في الاسم) فلا يطلق على أحد الأجزاء الاسم، مثل: الليمون لا نسميه: زنجبيل، وإنما نسمي مجموعهم (ومنها ما لا يكون التركيب شرطاً فيه) بل يسمى كل جزء من أجزائه باسم الكل، مثل: الآية من القرآن تسمى قرآناً، والسورة تسمى قرآناً والمصحف كله يسمى قرآناً، والقرآن مركب من هذه السور ومن هذه الآيات، ومثل: البحر، الجبل، الماء، الأرض، التراب وغيرها، فالقليل منها يسمى بحراً، أو تراباً، أو جبلاً.. وزوال شيء منه لا ينفي الاسم.
    والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
  2. رد أهل السنة على شبهة عدم تلازم عمل الجوارح وعمل القلب عند المرجئة

    (وقالوا أيضاً) -أهل السنة في ردهم على شبهات المرجئة (وهنا أصل آخر) أي: في موضع الكلام: أن الإيمان هو ما في القلب ولا يشمل الأعمال، وقاعدة يظهر بها الرد عليكم، وإبطال كلامكم، قال: (وهو أن القول قسمان: قول القلب وهو الاعتقاد، وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام والعمل قسمان: عمل القلب، وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح) -وهو امتثالها وفعلها الطاعات-.
    (فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله) أي: زال الإيمان كله، فنحن أهل السنة وأنتم معشر المرجئة متفقون على أنه إذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان، وإذا زال تصديق القلب الذي هو قول القلب، أول جزء من أجزاء الإيمان يقع للإنسان؛ لأنه أول ما يقع للإنسان من أجزاء الإيمان هو أن يصدق بقلبه، ثم ينطق ويعبر عن هذا التصديق بلسانه، وبعد ذلك عمل القلب والجوارح، قال: (وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء، فإن تصديق القلب شرط في اعتبارها وكونها نافعة). والمهم أنها لا تنفع قطعاً بالإجماع، (فإذا بقي تصديق القلب) وذهبت الثلاثة (فهنا موضع المعركة) وهنا الخلاف بيننا وبينكم، بل في الحقيقة أن الحنفية في الأصل يثبتون إقرار اللسان، وقد بينا فيما بعد حول الكلام على أن الإقرار ليس ركناً، أو أنه ركن زائد، أو أنه مجرد شرط، أو أنه علامة إلى آخر ما بينا، لكن لنفرض أسوأ الاحتمالات كما هو مذهب المتأخرين منهم فنقول: إن الرجل الذي لديه تصديق القلب، لكنه لم يأت ببقية الأجزاء الثلاثة، فهنا موضع المعركة، والخلاف بيننا وبينهم، فكيف يجيب أهل السنة ويلزمونهم، يقولون: لا شك أنه يلزم من عدم طاعة الجوارح عدم طاعة القلب، أي: يأخذوها واحداً واحداً، فهذا الرجل الذي صدق بقلبه، لكنه لم يطع بجوارحه، فنأخذ الظاهر أولاً، أي: عمل الجوارح من الطاعات المعروفة، هذا ما فعل بها، فهذا يلزم منه عدم طاعة القلب، إذ لو أطاع القلب وانقاد لأطاعت الجوارح وانقادت، وهذا معلوم، وبالتالي هذا الرجل مفقود منه عمل القلب؛ لأن العمل متلازم، ولا يمكن أن تعمل الجوارح إلا بعمل القلب، فاستدللنا بانتفاء عمل الجوارح على انتفاء عمل القلب، وبقي أن تنفي عنه قول القلب، يقول: ويلزم من عدم طاعة القلب وانقياده، عدم التصديق المستلزم للطاعة، فيلزمه من ترك عمل الجوارح، وفقدها أن يكون أيضاً فاقداً لعمل القلب، وإذا فقد عمل القلب فينبغي أن يكون فاقداً لتصديق القلب؛ لأنه لو صدق حقاً لعمل بقلبه، ولو عمل بقلبه لعمل بجوارحه، فتأمل هذا التسلسل، والشيخ لا يريد أن يلزمهم بأن الأقسام الأربعة حق كما بينا، وبالأدلة الصحيحة أن الأقسام أربعة وأنها حق، وأن الأدلة عليها واضحة، بل هو يقول فقط من باب الاستلزام، فهذا يلزم منه هذا، أي: يلزم من انتفاء الثاني، ويلزم من انتفاء الثاني انتفاء الثالث أو الأخير، فليس بعد انتفائه شيء؛ ولذلك أتى بالحديث المعروف المتفق عليه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح لها سائر الجسد كله، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد كله، ألا وهي القلب ) فالقلب لو صح تصديقه وإقراره للزم من ذلك خشوعه وإنابته ورغبته ورهبته وتوكله ويقينه وإخلاصه ومحبته، أي: أعمال القلوب الأخرى، ولو حصلت هذه الأعمال لكان من لوازمها ولا بد: أعمال الجوارح، من الصلاة والصيام وأداء الأمانة وترك المحرمات إلى آخر ما هو من أعمال الجوارح. فإذاً: هذا يدل على ما قال أهل السنة ، بخلاف عكس ذلك، وهو أنه قد تصح أعمال الجوارح ولا يصح إيمان القلب، أي: عمله وإقراره، ومثل ذلك: المنافق، فالمنافق يأتي بأعمال ظاهرها الصحة، ولكن انطواء قلبه على النفاق -والكلام في النفاق الأكبر- يجعل هذا العمل باطلاً، والمقصود أنه يحصل أن يجتمع أو أن يصلح أو أن يستقيم الظاهر مع فساد الباطن، لكن لا يمكن بحال من الأحوال أن يستقيم الباطن ولا يستقيم الظاهر، أن يؤمن الإنسان باطناً ولا يؤمن ظاهراً، بل لا بد أن يؤمن؛ ولهذا حتى حالة الإكراه نقول: هذه حالة مستثناة، ولما أكره إنما أكره ليخالف ما هو مستقر في باطنه، أما المنافق فإنه يعمل أعمال المسلمين في الظاهر، ولا يرغمه أحد في الباطن أن يعتقد الحق أو خلافه، بل لا يستطيع أحد أن يرغم أحداً بما يعتقد بداخل قلبه، لا بالحق ولا بالباطل، لكنه هو في الحقيقة اختار الباطل والكفر على الإيمان، وهذا يتخيل ويتصور، إذ إن التلبيس بالعمل الظاهر ممكن، لكن بالعمل الباطن لا يمكن؛ لأنه هو أصلاً نفسه باطن، فكيف يمكن أن يخفي الإنسان باطناً في الباطن؟! لكن أعمال الجوارح ممكن أن يظهرها العبد ويخفي حقيقة خلافها، كأن يظهر أعمال الكفر -مثلاً- وهو يبطن الإيمان في حالة الإكراه، أو أن يظهر أعمال الإيمان ويبطن الكفر في حالة المنافق، وهي حالة دائمة وليست حالة عارضة كحالة المؤمن، وعليه فالارتباط بين الباطن والظاهر، والعلاقة بين الظاهر -هي كما قررنا- كما هو نص الحديث ولا عكس؛ لأن العكس غير صحيح، فإذا صلح القلب صلحت الجوارح والأعمال، ولكن صلاح الأعمال لا يستلزم ولا يقتضي صلاح القلب، فهذا من أهل السنة والجماعة إلزام لهم، بأن قولكم مردود، وأن شبهتكم غير صحيحة.